بسم الله الرحمن الرحيم
منبر صلاح الدين وأشياء أخرى
د.إبراهيم زيد الكيلاني
بنى منبر الأقصى الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله في حلب، وذلك قبل فتحه بنيّف وعشرين سنة، وأركزه صلاح الدين بعد تحرير المسجد الأقصى المبارك في مكانه في قبلة المسجد.
ولقد أبدع الصُنَّاع في صنعته، وأتمَّه في سنتين، وكان الناس يتعجبون من صنع منبر المسجد الأقصى والصليبيون يحتلون أكثر البلاد ولهم أربعة عشر جيشاً في أرضنا، ويسخر الكثيرون: كيف سيُحرَّر الأقصى وهذه الجيوش جاثمة في أرض الإسلام؟! وكان نور الدين يجيبهم: يا قوم إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون. ومن لطائف الأمور أن محي الدين بن زكي الدين كان قد هنّأ صلاح الدين بعد فتحه لقلعة حلب بفتح بيت المقدس قبل فتحه بسبع سنوات، وقال له في قصيدة:
وفتحكم حلب الشهباء في صفر مبشِّر بفتوح القدس في رجب
وفُتحت القدس في السابع والعشرين من شهر رجب سنة (583هـ)، وأقيمت صلاة الجمعة في الرابع من شعبان، وكان خطيب الجمعة محي الدين بن زكي الدين صاحب البشرى، الذي افتتح خطبته بهذه الآيات:
{فقُطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين} [الأنعام:45]، {الحمد لله رب العالمين .
الرحمن الرحيم . مالك يوم الدين} [الفاتحة: 1-3]. ثم قال: الحمد لله معزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الشرك بقهره، ومصرِّف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره... أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصره لأنصاره، وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حَمْدَ من استشعر الحمد باطن سرّه وظاهر جهاره.
أيها الناس، أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا، لِمَا يسَّره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة، وردِّها إلى مقرها من الإسلام، بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مئة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يُرفع ويُذكر فيه اسمه... فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد عليه السلام، وقبلتكم التي كنتم تُصلّون إليها في ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء، ومهبط الوحي، وهو في أرض المحشر، وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين...
وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تُشدُّ الرحال بعد المسجدين إلا إليه... فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية، والعزمات الصِّدِّيقية، والفتوح العُمَرية... جدّدتم للإسلام أيام القادسية، والوقعات اليرموكية، فجزاكم الله عن نبيه محمد r أفضل الجزاء، فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حقّ قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها... إلى آخر الخطبة.
وسأتحدث بعد هذا في النقاط التالية:
حكمة بناء المنبر قبل فتح القدس بسنوات
يقول ابن شامة في كتاب "الروضتين في أخبار الدولتين": "بنى نور الدين وصلاح الدين من المساجد والمدارس بقدر ما بنيا من القلاع والحصون". وحكمة ذلك أن القلاع والحصون تحتاج إلى جند العقيدة الذين يحسنون صناعة الموت والشهادة، ويعرفون كيف ينصر الله المؤمنين على الكافرين، فيصبرون ويصابرون، ويشترون الجنة والنصر بدمائهم وأموالهم.
وكان للمنبر رسالته في إحياء روح الأمة الجهادية، وقد التقى العلماء والأمراء في ساحات الجهاد والإعداد المادي والمعنوي لأمة الإسلام.
منبر نور الدين:
وقد صنع نور الدين المنبر من خشب (الأبنوس) الخالص، ووصل خشب بعضه ببعض عن طريق (التعشيق) دون أن يستعمل المسمار؛ وذلك ليكون المنبر بصناعته ممثلاً لجسم الأمة بتواصله وتعاونه، وشد أزر بعضها لبعض، دون ضغط من جسم غريب عليه.
منبر المسجد الأقصى في تاريخ الأنبياء
فقد كان المنبر شاهداً على الدعوة إلى الله، وإعلاء كلمته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان الأنبياء والعلماء يجهرون بكلمة الحق في وجه حكام بني إسرائيل الذين تحالفوا مع ملوك الرومان، وحاربوا الرسالة والرسول، وسعوا لإخضاع بني إسرائيل لقيم الرومان وأخلاقهم وإباحيتهم.
ولكن الأنبياء والعلماء وقفوا في مواجهة الردة، ودافعوا عن دين الله وأحكامه، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر؛ فاستشهد نبيُّ الله زكريا ونبيُّ الله يحيى، قتلهما الملك اليهودي الموالي للغرب سياسة وأخلاقاً، كما قتلوا مئات من الأنبياء والعلماء الذين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر؛ حتى فقد المنبر رجاله، وسكت صوت الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنزل الله لعنته وعذابه على بني إسرائيل الذين رضوا بقتل أنبيائهم وعلمائهم، ولم ينتصروا لدين الله، وعطَّلوا فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فأزال الله ملكهم، وشرَّدهم في البلاد.
وقد ذكر الله سنته هذه في كتابه العزيز لنعتبر ونتذكر. قال تعالى: {لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون . كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة: 78-79]، {ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا} [آل عمران: 112]، وفي آية أخرى: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون} [المائدة:63]، وفي سورة البقرة ذكر الله تعطيلهم لمساجده عن رسالتها فقال: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [البقرة:114].
وقد وجَّهنا ربنا تعالى إلى أن هؤلاء الظالمين -المخرِّبين لمساجد الله، الذين يعطّلونها عن رسالتها، ويمنعون العلماء العاملين من صعود المنابر وتبليغ رسالة الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين؛ أي إن الأمة مسؤولة عن تحرير مساجدها، وحماية الدعوة والدعاة والرسالة والعلماء.
وكذلك وجَّهنا ربنا تعالى إلى أن اليهود ونصارى الرومان -الذين اعتدوا على المسجد الأقصى، وعطَّلوه عن أداء رسالته وخرَّبوه وهدموه- ما كان لهم أن يكون لهم سلطان على أرض الإسلام ومساجد الله، وأن السيادة عليها لأمة الإسلام التي تعظِّم حرمات الله وتقيم أحكامه، وأن هؤلاء اليهود والنصارى إذا أرادوا دخول هذه الأرض المقدسة ما كان لهم أن يدخلوها إلا بإذن من المسلمين يزيل خوفهم ويعطيهم أمان الإقامة.
كيف نعيد بناء المنبر؟
ومن هذا يتبين أن المنبر ليس بصورته الظاهرة صناعة وزخرفاً وخشباً، وإنما بروح الرسالة التي يحملها وعزم الأمة التي تحمي الرسالة ومن يبلِّغها.
حريق المسجد الأقصى ودلالته
وقد حرق اليهود المنبر شهر (8/1969م) بعد احتلال القدس (عام 1967م)؛ يريدون أن يزيلوا أثره، ويعملوا على هدم المسجد الأقصى بعد ذلك؛ لبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه.
وقد واجه المسلمون في القدس عدوان اليهود، والحريق الذي ضرموه فيه ببطولة وفداء؛ حتى شارك الرجال والنساء والأطفال بإطفاء الحريق. وحسناً صنع الأردن قيادة وشعباً بإعادة بناء منبر صلاح الدين على صورته وهندسته وشكله السابق؛ ليكون إعادة صنعه درساً بليغاً أن لهذا المنبر والمسجد من يحميه ويصونه، وأن الأمة التي حفظت عهد نور الدين وصلاح الدين في المنبر، ستحفظ عهده في تحرير القدس وفلسطين بإذن الله، وحسناً أن سمُّوه منبر صلاح الدين؛ وفاءً لصلاح الدين، وتجديداً للعهد.
هذا وكنت نظمت أبياتاً من الشعر في حريق الأقصى قلتُ فيها:
يا حريقاً ضرمت نيرانُه عصبةُ الغدر ببيت المقدس
أيُّ نار أكلت منبره وهو في القيد رهين المحبس
أين نور الدين قد هيأه قبل فتح القدس فتح الأنفس
وصلاح الدين قد أركزه بحراب الفتح يوم القُدُس
وعندما اقتحم عدو الله (شارون) باحة المسجد الأقصى مع رجاله وجنده؛ انطلقت انتفاضة المسجد الأقصى عام (1987م)، ولا تزال ملتهبة يمدُّها المسجد بنوره وناره، وعبثاً حاول أعداء الله إطفاءها عن طريق (أوسلو) والوعود الكاذبة التي تبعها تنكيلٌ بالمجاهدين، ولكن خداع اليهود قد كُشف، وتجرَّع سُمّه مَنْ وثق بهم وصدَّقهم، ولا يزالون يحاولون إطفاء نار المقاومة، وإطفاء نور الدعوة والجهاد عن طريق وكلائهم وعملائهم، ولكنهم يجهلون سنن الله في نصر المؤمنين وإحباط كيد الماكرين. وصدق الله العظيم: {إنهم يكيدون كيداً . وأكيد كيداً .
فمهِّل الكافرين أمهلهم رويداً} [الطارق: 15-17]، {ولينصرنَّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} [الحج:40]، {كتب الله لأغلبنَّ أنا ورسلي إن الله قوي عزيز} [المجادلة:21]، {وإن جندنا لهم الغالبون} [الصافات:173]. وهاهم يعتدون من جديد، ويهدمون باب المغاربة وسوره؛ تمهيداً لهدم المسجد الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه. وهذا ما يدعو أمة الإسلام للجهاد والنفير العام لإنقاذ المسجد الأقصى وتحريره.
الفتح العمري وإعادة المسجد والمنبر
بعد أن أختار الله القدس وفلسطين مسرى لنبيه محمد r حيث صلّى بالأنبياء إماماً -وكان هذا إيذاناً بمبايعة الأنبياء لسيد رسل الله على الإمامة والقيادة، ووراثة الرسالة والدعوة التي خانها بنو إسرائيل- جمع المسلمون أمرهم على تحرير بلاد الشام ومنها القدس ومسجدها وفلسطين من القوم الكافرين.
وبعد تسلُّم عمر رضي الله عنه لمفاتيح القدس -بعد انتصار المسلمين في معركة اليرموك- من (صفرونيوس) وإعطائه العهده العمرية توجَّه عمر إلى المسجد الأقصى، وكان الرومان قد حوَّلوه إلى مكان لجمع القمامة والأوساخ، وقام الصحابة الكرام بتنظيفه وتطهيره. يقول ابن جرير الطبري في "تاريخه": وكانت القمامة قد علت باب المسجد حتى دخله عمر ومن معه حبواً، وبعد عملية التنظيف والتطهير للمسجد الأقصى صلّى عمر في الصحابة الفاتحين صلاة العشاء، ثم انصرفوا، وبقي عمر وحده؛ أحيا الليل كله في المسجد الأقصى قائماً راكعاً ساجداً؛ يريد أن يعيد لهذا المسجد سابق عهده في طاعة الله وعبادته.
ومع الفجر حضر جند الفتح من الصحابة الكرام وصلى بهم عمر رضي الله عنه صلاة الفجر إماماً، وقرأ في الركعة الأولى سورة (الإسراء)، وفي الثانية سورة (ص) التي ذكر الله فيها داود وسليمان اللذين ورثهما محمد بحمل رسالة الله وإعمار مساجده.
بلال يؤذِّن في القدس:
وطلب عمر من بلال أن يؤذن، وكان قد انقطع عن الأذان بعد التحاق رسول الله r بالرفيق الأعلى؛ فأذَّن بلال لأول مرة في القدس بعد وفاة النبي الكريم، وأجهش الصحابة بالبكاء، وكان من أشدهم بكاء أبو عبيدة عامر بن الجراح ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما؛ حتى قال لهما عمر: حسبكما، حسبكما.
وأقام عمر حكم الإسلام وعدله في مدينة القدس، ولم يجبر أحداً على الخروج منها، ومنذ الفتح العمري والمسجد الأقصى يؤدي رسالته، وعلماء الإسلام يشدُّون الرحال إليه مع جماعات المسلمين، وأمراء المسلمين يتنافسون في تعميره. حتى وقع المسجد الأقصى في الأسر بعد الاحتلال الصليبي لبيت المقدس.
المسجد الأقصى يوحّد الأمة للتحرير
وقد سبق احتلال الجيوش الصليبية لبيت المقدس أمران:
الأول: انهيار روح الأمة الجهادية، وانشغالها باللهو والشهوات، وكانت ثقافة أبي نواس وبشار بن برد قد غلبت في بغداد عاصمة الخلافة.
وهذا ما تفطّن له الإمام أبو حامد الغزالي، وألّف كتابه "إحياء علوم الدين" ليستعيد روح الأمة وإيمانها وقيمها وأخلاقها وحسن توكلها على ربها وزهدها بمتاع الدنيا وشهواتها.
وانطلقت من مدرسة الإمام الغزالي مدرسة الشيخين عبد القادر الكيلاني وعبد الرحمن الجوزي اللذين عُرفا بالعلم والتربية والتزكية، وكان جند نور الدين وصلاح الدين من ثمرات هذه المدارس المباركة.
وكان الشيخ عبد القادر الكيلاني قد أعلن حربه على علماء السلاطين الذين يفرِّقون أمر الأمة بفتاواهم وخلافاتهم وحرصهم على مظاهر الجاه والمال وسمّاهم: "قطّاع الطرق عن الله".
الثاني: تقطيع بلاد المسلمين بإمارات وممالك يكيد بعضها لبعض؛ حتى يئس الناس من المقاومة والجهاد طريق التحرير، وهيّأ الله لهذه الأمة العالِم المجاهد والأمير المجاهد، وكان للعلماء جهادهم في بعث روح الجهاد، وكان لنور الدين وصلاح الدين جهادهم في توحيد الأمة تحت راية الجهاد؛ حتى كان النصر العظيم في معركة حطين، وتحررت القدس، وعاد المنبر إلى مكانه في قبلة المسجد الأقصى، بعد أن وحَّد صلاح الدين مصر وبلاد الشام وقضى على الأمراء الانفصاليين.
الإعلام ودوره في المعركة
وكان صلاح الدين حريصاً على تحريك الأمة نحو القدس والمسجد الأقصى؛ حتى أصبحت أناشيد الشباب وأغاني الأعراس وقصائد الشعراء تنادي الأمة لتحرير المسجد الأقصى والقدس وفلسطين، وكلما فتح صلاح الدين قلعة عرف الناس أن تحرير القدس والمسجد الأقصى قريب.
وهذا ما عبَّر عنه الشاعر ابن القيسراني مهنئاً صلاح الدين بإحدى الانتصارات:
كأني بهذا العزم لا فُلَّ حَدُّه وأقصاه بالأقصى وقد قُضي الأمرُ
وقد أصبح البيتُ المقدس طاهراً وليس سوى جاري الدماء له طهرُ
وصلّت بمعراج النبي صوارم مساجدها شَفْعٌ وساجدها وَتْرُ ( )
وقد أدَّت البيضُ الحداد فروضَها فلا عُهدةٌ في عنق سيف ولا نذرُ
كان المسجد الأقصى رمز المقاومة؛ يفجر نارها في القديم والحديث، وكان وعي الأمة الإيماني والجهادي قد قطع الطريق على الأمراء الانفصاليين. ولا يزال المنبر ينادي: أين صلاح الدين، وأين إخوان صلاح الدين؟! وها هم يعودون في مقاومة جهادية هي أقوى بإذن الله من مكر الأعداء وعملائهم. والله المستعان.
المصدر: موقع مجلة الفرقان.