فتح مكة.. الفتح الأعظم
رسالة الإسلام ـ علاء أبوالعينين
حُرم المسلمون ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من زيارة بيت الله الحرام وحجه والاعتمار فيه، ووقفت قريش تمنعهم حينما أرادوا ذلك في السنة السادسة من الهجرة، ورضي الرسول عليه الصلاة والسلام بالعودة إلى المدينة بعدما عَقَدَ معهم "صلح الحديبية".
وأدّت التطوُّرات والأحداث التي أعقبت صلح الحديبية إلى تغيُّرٍ في ميزان القوى بين المسلمين وقريش لصالح المسلمين، وكما يؤكِّد خبراء السياسة فإنَّ المعاهدات التي تُعقد في ظل اختلالِ موازين القوى لا بُدَّ أن تتغير عندما تتغير هذه الموازين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم -تقديراً منه لعهده وميثاقه- حافظ على ما ورد في صلح الحديبية، عالماً ومدركاً أنَّه لا بُدَّ من وقوع حادثة من جانب قريش تعصف بالصلح، وتجعل المسلمين في حلِّّ من التزاماته.
قريش تنقض العهد
وصدقت الرؤية النبوية، حيث أغارت قبيلة بكر على خزاعة في السنة الثامنة من الهجرة، وأمدَّت قريش حليفتها قبيلة "بكر" بالمال والسلاح، وقتلوا أكثر من عشرين من خزاعة حليفة المسلمين، واعتدوا عليهم رغم لجوئهم إلى الحرم.
وأمام هذا النقض الصريح للعهد ركب "عمرو بن سالم الخزاعي" في أربعين من قومه وذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه النصرة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "نُصرت يا عمرو بن سالم!"، وأمر المسلمين بالخروج لمناصرة خزاعة.
وقد حقَّقت مساعدة النبي لخزاعة ووعده لها بالنصرة عدة أهداف، منها: أنها فرَّقت بين أن يحترم المسلمون العهود والمواثيق التي وقعوا عليها، وبين أن يعيشوا في غفلة عما يُدبِّره المهادنون لهم؛ لأنَّ وقائع التاريخ تؤكِّد أنَّ غالبية العهود ما هي إلا فترات لالتقاط الأنفاس في الصراع، كما أنَّها كشفت عن احترام المسلمين لتحالفاتهم، حتى لو كانت مع خزاعة التي لم تكن قد أسلمت بعد، وأثبتت أنَّ المسلمين جادُّون في تنفيذ بنود تحالفهم، حتى لو كلَّفهم ذلك دخول حرب، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام القبائل العربية للتحالف مع المسلمين وليس مع قريش (الغادرة)، مع خَلْقِ رأيٍ عام في الجزيرة العربية يُذيب بعض الحواجز بين هذه القبائل والإسلام، ويجعلهم يستمعون إلى القرآن الكريم دون تحيُّزٍ مسبقٍ؛ وبالتالي يكسر الحدود الوهمية بينهم وبين الإيمان.
أبو سفيان يطلب العفو
أدركت قريشٌ أنها ارتكبت خطأً استراتيجياً كبيراً بما أقدمت عليه من تقديم المال والسلاح لقبيلة بكر، وحاولت أنْ تُعالج هذا الخطأ؛ حيث انطلق زعيمها وأكبر ساستها "أبو سفيان بن حرب" إلى المدينة المنورة طلباً في العفو عن هذا الخطأ الفادح، وتجديداً للهدنة.
واستشفع أبو سفيان بكبار الصحابة مثل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، لكنَّ علياً لخَّص الموقف بقوله لأبي سفيان: "ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله على أمرٍ ما نستطيع أن نكلمه فيه"؛ فعاد أبو سفيان صفر اليدين إلى قريش.
مراعاة عنصر المفاجأة
كان فشل أبي سفيان لا يعني إلا شيئاً واحداً وهو الحرب، وجهز المسلمون جيشاً ضخماً بلغ قوامه عشرة آلاف مقاتل، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم السرية الشديدة؛ حتى يحقِّق عنصر المفاجأة لكفار مكة، فكتم وجهة الجيش في التحرُّك عن الجميع، بما فيهم أبو بكر.
واستكمالاً لعملية التوكل التي تجمع بين دعاء الله والأخذ بالأسباب؛ قام النبي صلى الله عليه وسلم بعملية خداعٍ رائعةٍ، اقترنت بعملية تأمينٍ للمعلوماتِ وسريةِ تحرُّك الجيش، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية من ثمانية رجال بقيادة "أبي قتادة بن ربعي" إلى مكان يُسمَّى "بطن إضم"، وكان هدفها الحقيقي غير المعلنِ هو تضليل المشركين، كذلك كانت هناك وحداتٌ صغيرةٌ بقيادة عمر بن الخطاب -قوي الشكيمة- تُحقِّق في الداخلين والخارجين من المدينة المنورة، وتتحفَّظ على من سلك طريق المدينة – مكة؛ وبذلك حال دون حصول قريشٍ على أيِّ معلوماتٍ عن تجهيزات المسلمين.
وأُحبطت محاولةٌ كبيرةٌ لتسريب معلوماتٍ إلى قريشٍ حول استعدادات المسلمين، قام بها أحدُ الصحابة البدريين وهو "حاطب بن أبي بلتعة"، وتم القبض على المرأة والرسالة التي تحملها من قَبْلِهِ قَبْلَ أنْ تصل إلى قريش.
وما ارتكبه حاطبٌ خيانة عظمى عقوبتها معلومة، ولكنَّ النبي صلى الله عليه وسلم علم أنَّ الضعف الإنساني قد يُصيب بعض المسلمين رغم إيمانهم العميق؛ لذلك رفض رغبة عمر في قطع رقبة حاطب، وقال له: "وما يدريك يا عمر! لعلَّ الله قد اطلع على أهل بدر يوم بدر؛ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم"، وأيَّد القرآن الكريم موقف النبي صلى الله عليه وسلم في "سورة الممتحنة" واصفاً حاطباً بالإيمان رغم ما ارتكبه.
وافق خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة العاشر من رمضان من السنة الثامنة للهجرة؛ فصام وصام المسلمون معه، حتى إذا بلغوا مكاناً يُسمَّى "الكديد" أفطر وأفطر المسلمون معه، ولم يزل مفطراً باقي الشهر حتى دخل مكة.
واستجاب الله تعالى دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، فلم تعلم قريش شيئاً عن تحرُّكات المسلمين أو نواياهم، وفي هذه الأثناء خرج العباس بن عبد المطلب بأهله مهاجراً إلى المدينة، وكان العباس هو الذي يمدُّ المسلمين بالمعلومات الاستخبارية عن نشاطات قريش منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة.
إسلام أبو سفيان
ولم يستطع زعيم قريش أبو سفيان السكون طويلاً على هذا الوضع المقلق الذي خلقه نقض قومه لعهدهم مع المسلمين؛ فخرج يتحسَّسُ الأخبار، ففوجئ بجيش المسلمين الضخم عند مكانٍ يُسمَّى "ثنية العقاب" قُرب مكة، فأسرته قوةٌ من استطلاعات المسلمين، وهمَّ عمر بن الخطاب أن يضرب عنقه، إلا أنَّ العباس أجار أبا سفيان وأركبه خلفه على بغلته ليدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتمسون العفو.
رفض النبي صلى الله عليه وسلم استقبال أبي سفيان في بداية الأمر، فقال أبو سفيان: "والله ليأذنن، أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهب في الأرض حتى نموت عطشاً أو جوعاً"، فلما علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك رقَّ له، ورحم عزيزَ قومٍ أصابته تقلُّبات الدهر، وأذن له بالدخول، ولما رآه قال له: "ويحك يا أبا سفيان! ألم يأنِ لك أنْ تعلم أن لا إله إلا الله؟!".
فَتَحَتْ هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم قلب أبي سفيان للإسلام، وقال: "بأبي أنت وأمي! ما أحلمك وأكرمك وأوصلك!! أما هذه والله فإنَّ في النفس منها حتى الآن شيئاً"؛ فقال له العباس: "ويحك! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله، قبل أن تُضرب عُنُقُكَ"؛ فأسلم أبو سفيان.
ويكشف هذا الموقف عن روعةِ تقاسم الأدوار بين المسلمين لهداية الناس إلى الله تعالى، فإن الأقفال المغلقة للقلوب تحتاج إلى مفاتيح مختلفة تمزج بين الشدة واللين، وبين الصفح والحزم.
أَسَرَ زعيم قريش هذا المعروف النبوي، واللين في مواقف القوة والتملُّك أشدُّ وقعاً على النفوس من السيف، والأخلاق النبوية أصابت سويداء قلب هذا الزعيم القرشي بعد حربٍ ومناهضةٍ للإسلام زادت على عشرين عاماً.
حرب نفسيَّة
ولم تتوقف الدروس النبوية في حقِّ أبي سفيان عند هذا الحدِّ، بل إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أجلسه في مكانٍ يرى فيه جيش المسلمين القوي وهو يمرُّ بقوَّاته الكثيفة أمام عينيه، حتى يُزيل جميع رواسب الكفر من نفسه، وحتى يقوم أبو سفيان قائماً -دون أن يشعر- بحرب نفسية لصالح المسلمين وسط قريش، تخيفهم من قوة المسلمين، وتَحُوْلُ كلماته عن وصف هذا الجيش الكثيف دون أي محاولة قرشية للمقاومة.
وتقول روايات السيرة: إنَّ أبا سفيان لما رأى ذلك المشهد انطلق إلى قومه، وصرخ فيهم بأعلى صوته: "يا معشر قريش! هذا محمدٌ قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن".
لقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم نفسية هذا الزعيم بأن جعل له من الفخر نصيباً؛ ريثما يستقر الإيمان في قلبه، فقال: من "دخل دار أبي سفيان فهو آمن".
تفرَّق القرشيون ولزم كثير منهم دورهم، أما الباقون فلجئوا إلى المسجد؛ وبذلك نجحت خطة المسلمين في تحطيم مقاومة قريش، وخلق استعداداً عند أهل مكة ليطبِّقَ عليهم المسلمون ما يعرف في عصرنا الحالي "حظر التجوُّل"، وهو ما يمهِّد للسيطرة التامة دون مقاومة على مكة.
لقد سبق دخول النبي صلى الله عليه وسلم لمكة حرب نفسية مركَّزة ومتعدِّدة الأدوات، ومنها:
- أنَّه أمَّر كلَّ جندي في الجيش أنْ يوقد ناراً ضخمة، فأوقد من النار عشرة آلاف حول مكة طوال الليل؛ وهو ما أدخل الرعب في قلوبهم، وشتَّت أي عزيمة في المقاومة، وحرمهم النوم بالليل خوفاً من المداهمة، فأضعف استعدادهم لمواجهة المسلمين في الصباح.
- أنَّه فتح باب الرحمة والعفو لقريش قبل أن يبدأ في دخولها؛ مستحضراً في ذلك عظمة البيت الحرام، فإذا فعل المنتصر ذلك؛ فإن المقاومة تنهار.. تروي كتب السيرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم علم أنَّ "سعد بن عبادة" -وهو أحد قادة الجيش- قال: "اليوم يوم الملحمة.. اليوم تُستحلُّ الحرمة"؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعزل من قيادة الفيلق، ويتولى ابنه "قيس بن سعد".
- كانت خطة المسلمين أن يدخلوا مكة من جهاتها الأربع في وقت واحد، وهو ما يُشتِّت أيَّ احتمالات لمقاومةٍ مكيَّةٍ، ويهدم معنويات الخصم، ويُدخل اليأس إلى نفسه من جدوى المقاومة التي تُعَدُّ انتحاراً لا طائل من ورائه.
دخول مكة دون مقاومة
نجحت الخطة الاستراتيجية التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول مكة في عدم تعرُّض جيش المسلمين لمقاومةٍ تُذكر، وأسلم غالبية زعاماتهم.
لكنَّ هذا الانتصار العظيم زاد النبي صلى الله عليه وسلم تواضعاً؛ فدخل مكة وهو يركب ناقته، ويقرأ سورة الفتح، وكان يُطأطئ رأسه حتى لتكاد تمسُّ لحيته رحله شكراً لربه تعالى، ولما جاء على باب الكعبة قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كل مأثُرَةٍ أو مالٍ أو دمٍ فهو تحت قدميَّ هاتين إلَّا سِدَانَة البيت وسِقاية الحاج.. ألا وقتيل الخطأ شبه العمد -السوط والعصا- ففيه الدية مغلَّظةٌ، مائةٌ من الإبل أربعون منها في بطونها أولاد.
يا معشر قريش! إنَّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم، وآدم من تراب"، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }[الحجرات:13].
ثمَّ قال: "يا معشر قريش! ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم! قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: { لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ } اذهبوا فأنتم الطلقاء".
ولم يمنع هذا العفو العام من إهداره لدماء بضعةَ عشر رجلاً أمر بقتلهم حتى لو تعلَّقوا بأستار الكعبة؛ لكونهم "مجرمي حرب"، وكان الوجه الآخر لهذا الأمر أنْ تبقى هذه الرؤوس التي من الممكن أنْ تكون نواة لنمو مقاومةٍ ضِدَّ المسلمين في حالة خوفٍ وحذرٍ على أنفسها، تمنعها من التحرُّك، وتفرض عليها التخفي، وكانت روعة الإسلام أنَّ غالبية هؤلاء أسلموا وحسن إسلامهم، وقَبِلَ منهم النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام.
وهكذا استسلمت مكة، وعَلَتْ كلمة الله في جنباتها، ووصل رسول الله إلى البيت العتيق، فاستلم الحجر وطاف وفي يده قوسٌ طعنَ به أصنام قريشٍ وهو يُردِّد: { جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً }[الإسراء:81].
الأنصار يخشون فراق النبي
وخشي الأنصار أنْ يُفارقهم رسول الله بعد أنْ فتح الله بلده ووطنه فيُقيم فيها، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما تخوُّفوه؛ فقال لهم: "معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم"، وقرَّت أعينهم بذلك واطمأنت نفوسهم.
وهكذا دخل أهل مكة في الإسلام، وذهبت القوة التي تحمي الوثنية وتُقاتل دونها، وكان ذلك إيذاناً بانتشار التوحيد في كل أرجاء الجزيرة، بل وفي كلِّ بقاع الأرض.
وظلَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة طيلة رمضان، يبعث السرايا إلى الأصنام فتحطِّمها، وينقاد عُبَادها إلى دعوة الحق مذعنين؛ فقد فتح الجميع أعينهم فإذا هم أمام الأمر الواقع، حتى خُيِّلَ لهم أنَّ النصر معقود بألوية الإسلام لا ينفكُّ عنها أبداً.
--------------------------------------------------------------------------------
من مصادر المقال:
- الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، 1994م.
- من معارك المسلمين في رمضان، د. عبد العزيز بن راشد العبيدي، الرياض: مكتبة العبيكان، 1994م.
- فتح مكة.. الخطة وعبقرية التنفيذ - موقع إسلام أون لاين. نت.