ينطبق المثل القائل "مصائب قوم عند قوم فوائد"، بكل ما يحويه من معنى، على مرض H1N1 المعروف بالانفلونزا المكسيكيّة، والذي حط رحاله في بقاع عدة
حول العالم، مثيرًا حالة من الذعر والقلق لدى الملايين من البشر، حيث رافقت تداعياته الوبائية حالة من الرواج الاقتصادي لمجموعة من كبريات الشركات
الدوائية التي استغلت الموقف لمصلتحها لتحقيق أعلى المعدلات الربحية من خلال تدشينها خطوط إنتاج لقاحات علاجية جديدة.
وتشير مجلة "بيزنس ويك" الأميركية إلى أنه في الوقت الذي كانت تنظر فيه الشركات الدوائية إلى لقاحات الأنفلونزا المكسيكية على أنها منتجات منخفضة
الهامش وتكتنفها المخاطر، فإنها تحوَّلت الآن إلى نشاط تجاري متنامٍ بالنسبة إلى عملاقة الصناعات الدوائية السويسرية "نوفارتيس" وغيرها من الشركات
.
وترى المجلة أن شركة الأدوية السويسرية عززت من الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة الآن لمكافحة وباء الإنفلونزا، بعدما افتتحت أول من أمس أول مصنع
لها يعمل في مجال زراعة الخلايا على نطاق واسع في "هولي سبرينغز" في نيويورك، مدعومًا بتمويل فيدرالي قيمته 487 مليون دولار.
وتشير المجلة في الوقت عينه إلى أن ذلك المصنع يمثل معلمًا رئيسًا في تقنيات الإنتاج في مجال التكنولوجيا الحيوية لاستبدال عملية التصنيع المستمرة منذ
نصف قرن، وترتكز على إنماء اللقاحات على بيض الدجاج.
وهنا، تنقل المجلة عن دانييل فاسيلا، رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لـ "نوفارتيس"، قوله "تتيح تلك التكنولوجيا إمكانية تجاوز الطريقة التقليدية التي
تعتمد على "البيض"، كما تزيد من موثوقية وإنتاجية إنتاج اللقاحات".
وبينما تعتبر "نوفارتيس" واحدة من شركتين تصنعان اللقاح باستخدام أحدث الطرق التي ترتكز على الخلايا، يُنتَظر أن يقوم مصنعها الجديد في أميركا بإنتاج
لقاحات الإنفلونزا على خلايا كُلى الكلاب، بدلاً من بيض الدجاج، وبذلك يتم اختصار نحو شهر من المدة التي تتراوح ما بين ثلاثة إلى ستة أشهر، وتكون
ضرورية لإنتاج اللقاحات باستخدام البيض.
وطبقًا لـ "نوفارتيس"، فإن المصنع سيتمكن من إنتاج 50 مليون جرعة من لقاح الإنفلونزا الموسمية، و150 مليون جرعة من اللقاح المضاد للجائحة للولايات
المتحدة في غضون ستة أشهر من الإعلان عن وقوع الجائحة. ومع هذا، فإن المصنع لن يتمكن قبل مطلع عام 2011 من البدء في إنتاج لقاحات من الخلايا.
المواد المساعدة ولقاح H1N1
ترى المجلة أن أي زيادة مستقبلية في الطاقة الإنتاجية ستكون أمرًا مرحّبًا به في الولايات المتحدة. فالنقص الحاصل الآن في اللقاحات المعالجة لمرض الإنفلونزا
المكسيكيّة داخل الولايات المتحدة جاء ليلقي الضوء على الحاجة إلى تكنولوجيات تطوير لقاحات أحدث وأكثر موثوقية.
وعلى الرغم من توزيع 50 مليون جرعة للقاح H1N1 حتى الآن، إلا أن هذا الكم يكفي فقط ما يقرب من ثلث الـ 160 مليون أميركي، التي تود مراكز السيطرة على الأمراض أن تقوم بتطعيمهم.
وتكشف المجلة عن أن جزءًا كبيرًا من المشكلة يكمن في أن وكالة الغذاء والدواء الأميركية، لم تقم كما فعلت نظيرتها في أوروبا، بالمصادقة حتى الآن على
استخدام المواد المساعدة، التي تعتبر إضافات تُزيد من درجة استجابة الجسم للقاحات، وتُخفِّض من الجرعة المطلوبة.
هذا وتقوم بالفعل شركة "نوفارتيس" بإنتاج لقاحات للإنفلونزا الموسمية وإنفلونزا المكسيك من موادها المساعدة المُرَخَّصة في مصنع موجود في ماربورغ في
ألمانيا.
وتلفت المجلة الانتباه كذلك إلى أن "نوفارتيس" قامت بالمصادقة على لقاح الإنفلونزا الموسمية في أوروبا واليابان، وحاز لقاح إنفلونزا المكسيك أخيرًا موافقة الجهات التنظيمية في ألمانيا وسويسرا.
وهنا، يعاود فاسيلا ليقول إن التجارب أظهرت لهم أن استخدام المواد المساعدة قد يضاعف أو يزيد بمقدار أربعة أضعاف من الإمدادات الخاصة باللقاحات.
ويوضح "لقد تم التعامل بأمان مع نحو 45 مليون جرعة من اللقاحات المبنية على الخلايا مع المادة المساعدة، ما يجعل منه تطبيقًا معترفًا به في البلدان الأخرى".
كما يُعرب فاسيلا عن ثقته من أن تكنولوجيا تطوير اللقاحات بوساطة الخلايا سيتم الموافقة عليها في نهاية المطاف في الولايات المتحدة، وفي حالة تفشي الوباء
فجأة، ستتصرف وكالة الغذاء والدواء بشكل سريع على الأرجح للمصادقة على استخدام المواد المساعدة.
تجدد ظهور اللقاحات
منذ فترة ليست بطويلة، كانت تُعبِّر اللقاحات عن العلاقة السيئة لصناعة المستحضرات الصيدلانية. فتركيبتهم المعقدة وكلفتهم التصنيعية المرتفعة – اقترانًا
بالهوامش المنخفضة نسبيًّا ومخاطر التقاضي الرئيسة – حالوا دون إقدام الشركات على تصنيعها، باستثناء حفنة قليلة من الشركات، كان من بينها نوفارتيس
السويسرية، وجلاسكو سميث كلاين البريطانية، وسانوفي- أفينتيس الفرنسية، وميرك الأميركية، ووايث التي تتبع الآن شركة فايزر.
لكن الأمور اختلفت الآن بالنسبة إلى إنتاجية اللقاحات، في ظل ما تواجه الصناعة الآن من تحديات خطرة لنشاطها الدوائي الأساسي.
وتشير المجلة إلى أن اللقاحات تُصنَّف في فئة الأدوية البيولوجية، ذات الكلفة الباهظة والتي يصعب إنتاجها، لكن ذلك يجعلهم أقل عرضة للمنافسة العامة من المُصنِّعين الأضعف.
وفي الوقت الذي تُسجل فيه معدلات نمو سوق العقاقير العالمية التي تصرف بوصفات، وقيمتها 780 مليار دولار، تباطؤًا سنويًّا بنسبة 5 %، يقول كثير من
المحللين إن صناعة اللقاحات، التي يتوقع لها أن تصل إلى 13 % سنويًّا خلال عام 2012، تقدم الإمكانات الأكثر إيجابية.
وفي هذا الإطار، يقول مايكل بويد، القائم بأعمال المدير العام للاتحاد الدولي لمنتجي وجمعيات المستحضرات الصيدلانية "بدأت تستثمر المزيد من الشركات في
اللقاحات كوسيلة للتنويع بعيداً من العقاقير، التي تصرف بروشتة، كما تمكنهم التقنيات الجديدة مثل زراعة الخلايا من إنتاج لقاحات أكثر تطوراً".
لقاحات الإنفلونزا تنعش الصفقات الدوائية
هذا ويمكن ملاحظة أن عددًا كبيرًا من الصفقات التي أبرمت خلال الآونة الأخيرة تركزت على اللقاحات. فمن خلال صفقة استحواذها على "وايث" بقيمة قدرها
68 مليار دولار، تعمل فايزر الآن في مجال اللقاحات.
وفي الثامن والعشرين من شهر سبتمبر الماضي، أنفقت مختبرات أبوت "ABT" مبلغاً قدره 6.6 مليار دولار على شركة سولفاي البلجيكية المنتجة للقاح
الأنفلونزا، في حين قامت جونسون آند جونسون "JNJ" بشراء 18 % من شركة كروسيل "CRXL" الهولندية المصنعة للقاح.
كما وقَّعت أخيرًا شركة جلاسكو سميث كلاين على عقد بقيمة 2.2 مليار دولار لمدة 10 سنوات، كي تزود البرازيل بلقاح المكورات الرئوية الذي تقوم بإنتاجه.
وفي الوقت الذي بدأت تنضج فيه الاقتصاديات الناشئة، وبينما بدأت تنمو الإنفاقات على الرعاية الصحية هناك، بدأت تقدم اللقاحات للشركات الدوائية أيضًا سلسلة
جديدة من الأسواق الجذابة.
وفي يونيو الماضي، وقّعت جلاسكو سميث كلاين على مشروع مشترك قيمته 78 مليون دولار مع إحدى الشركات الصينية لتطوير لقاحات الإنفلونزا. وبعدها
بشهر، استحوذت شركة "سانوفي" على حصة الغالبية في شركة "شانثا بيوتكنيكس" الهندية المصنعة للقاحات، مثمنة الشركة بقيمة بلغت قيمتها 824 مليون دولار.
وفي الرابع من نوفمبر الجاري، أنفقت "نوفارتيس" مبلغًا قدره 125 مليون دولار للحصول على حصة نسبتها 85 % في شركة " تشجيانغ تيانيوان" الصينية
الخاصة لتطوير اللقاحات.
حقنة علاجية للإنفلونزا الموسمية في الذراع
على المدى القصير، ستقوم مبيعات اللقاحات المعالجة لإنفلونزا H1N1
على أقل تقدير بإعطاء دفعة كبيرة للمبيعات في الشركات الثلاثة الرئيسة المُصنِّعة للقاح في أوروبا.
فتقول شركة جلاسكو سميث كلاين إن توقعات المحللين بوصول مبيعات لقاحات H1N1 إلى 1.7 مليار دولار في الربع الأخير من العام الجاري، هي توقعات
دقيقة إلى حد كبير، وهي الأرقام نفسها المتوقع تحقيقها في الربع الأول من عام 2010.
فيما تتوقّع نوفارتيس وصول مبيعات لقاح H1N1 وحده خلال الربع الأخير من العام الجاري إلى 700 مليون دولار.
في حين تتوقّع سانوفي أفينتيس وصول مبيعات لقاح H1N1 إلى 500 مليون دولار في الربع الأخير من العام الجاري.
أما بالنسبة إلى تجارة لقاحات الإنفلونزا، فيؤكد فاسيلا على أنها موسمية وغير متوقعة.
وعلى المدى البعيد، تقدم أدوية السرطان والتهاب السحايا فرصة أفضل في هذا الشأن.
ويشير فاسيلا إلى أن زيادة الاستثمارات في بحوث وتطوير اللقاحات، والتجارب السريرية، والإنتاج، هو سبب حدوث الخسائر.
ويلفت إلى أن شركته قامت على سبيل المثال بإنفاق 200 مليون دولار على مدار السنوات الثلاثة الماضية لبناء مصنع ثانٍ في ليفربول في إنكلترا، يُخصَص لإنتاج لقاحات H1N1 التي تزود بها الولايات المتحدة.
وينهي فاسيلا حديثه بالقول "تُبَرَّر هذه الأنواع من الاستثمارات وكأنها جزء من إستراتيجية شاملة طويلة الأجل، ونحن نعتقد أن استثماراتنا ستؤتي بثمارها".