نتفق جميعاً على أن الكلمة الطيبة صدقة ، وهي جزء مما ورثناه من هدي نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم ، كما نتفق أن بيننا يعيش الكثيرين ممن يحتقرون ذواتهم ولا يولونها الحب الذي تستحق .
والمتأمل في بعض النصوص القرآنية من مثل قول الحق تبارك وتعالى : " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا " ، وقوله عز وجل : " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ " . يلحظ بجلاء أن الله تعالى كرم الإنسان وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً ، كرمه بالعقل ، وبخلقه في أحسن تقويم ، وبمنحه القدرة على الاختيار وحرية التصرف واستقلال الرأي ، وتمكينه من العلم والحكمة ، وممارسة الكثير من الحقوق ، ومنحه الإرادة لتحقيق مبتغياته المتنوعة ، وجعله خليفة الله في الأرض ، وتسخير ما في الكون له ، وجعل الكثير من أطايب النعم في متناول يديه وباقي حواسه ، إلى غير ذلك مما خُص به ويطول حصره.
لكنها حقيقة أن البعض من بني البشر لا يرقى إلى استشعار عظمة هذا التكريم وبالتالي لا يوفق لاحترام ذاته وإنزالها المنزلة الرفيعة التي تليق بها .
والأمر في نظري يعود إلى جملة من الأسباب ، منها على سبيل المثال جهل غير قليل من الناس أنفسهم ومن حولهم من آباء وأمهات ومربين ومربيات ومسئولين بحقيقة التكريم الموهوب للإنسان ، وفي ظني أن قليل منا من يدركون دواعي تكريم الله تعالى لهم.
هناك أيضاً ضعف في تنشئة البعض على الشعور بالكرامة والاعتزاز بالذات ، وهذا العنصر يشارك في غرسه الوالدان والمربون بالمدارس والمعاهد وغيرها من المحاضن التربوية ووسائل الإعلام والوسائل التقنية على اختلاف أنواعها بالإضافة إلى مؤسسات أخرى من مؤسسات المجتمع .
فمثلاً كيف نطالب الابن أو الإبنة أن يكون أحدهما معتزاً بذاته وقد رُبي في بيت أو مدرسة أساس التعامل فيهما الضرب والشتم والنهر والتهديد والوعيد والإهانة ؟!
كيف نطالب من الزوجة أن تكون معتزة بذاتها غير محقرة لنفسها وهي تُضرب صباح مساء من قبل زوجها ولأسباب غير مبررة بالرغم من مستواها الفكري والتعليمي والعملي الرفيع وتهان وتنهب ثروتها وتُحجب عنها حقوقها ولا تنصف في حال الطلاق أو عند الرغبة في التملك أو اكتساب الإرث أو ممارسة العمل التجاري ... الخ ؟!
كيف نطالب من الموظف أن يعتز بذاته ولا يحتقرها وهو يعمل في دائرة ليس لديه فكرة سليمة عن أهدافها وإجراءاتها وسياساتها وما له من حقوق فيها وما عليه من واجبات تجاهها ؟! كيف نطالبه بأن يكون منتمياً واثقاً من نفسه وحقوقه مهضومة بالرغم من تميزه ؟!
كيف نطالب من الإنسان عموماً أن يعتز بذاته وهو يرى عبر وسائل الإعلام المختلفة ويقرأ ويسمع عن الإهانات التي توجه لإخوانه المسلمين في شتى بقاع الأرض ويرى الظلم الذي يُمارس ضدهم بدون أمل في أنصافهم أو رفع الحيف والظلم والجور عنهم ؟!
كيف نطالبه بأن يكون معتزاً بذاته وهو يتعرض لقصف إعلامي رهيب في كل الأوقات قوامه عرض مستويات مرفهة في حياة أصحابها الغربيين بينما هو لا يجد من عيشه إلا كفاف الكفاف ؟!
هناك أشخاص يتسمون بالسمات الشخصية الضعيفة ، ولهذا السبب ينظرون لأنفسهم نظرة دونية مُحقرة للذات ومُنقصة للقدر وغير منصفة في تحديد المكانة ، ومثل هؤلاء لا يمكن مساعدتهم وقد اتخذوا قرارات قرروا من خلالها أنهم دون ولا يستحقون إلا الرتب المتدنية وربما التبطل والضياع .
أيضاً هناك أفكار وعادات وتقاليد وأنظمة وقوانين غير مكتوبة في كثير من الأحيان ومعوقة في أحيان أخر ومغيبة عن التطبيق والتفعيل في الواقع العملي في كثير من الأحوال، ففي حين نتعلم من هدي ربنا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم " إن أكرمكم عند الله أتقاكم " نجد بيننا من يصنف الآخرين من حوله تصنيفات باطلة ، فهذا يُطلق عليه صفر سبعة ، وذاك خط مائتين وعشرين والثالث خط مائة وعشرة ... الخ الأوصاف المتسمة بالجهل والعنصرية، وفي حين نتعلم أن الإنسان المناسب يوضع في المكان المناسب نجد في الواقع العملي أنه لا يتبوأ مكانة رفيعة في المجتمع الوظيفي على سبيل المثال إلا من أوتي حظاً من نسب رفيع أو مكانة اجتماعية أو مادية عالية أو أوتي واسطة نافذة ، وفي حين نفهم أن القضاء وجد لإنصاف الناس نجد أنه يُمكّن أحياناً من الولاية على أطفاله سفيه فاجر غير صالح البتة للتربية وينتزعون من حضن أم رءوم صالحة كل الصلاح للاضطلاع بالمسئولية العظيمة تجاه أولادها، أيضاً نجد أن أحد العابثين يستمتع بزوجته سنين عدداً يُريها خلالها ألوان وأصناف العذاب ثم لما ينفذ صبرها ويطفح الكيل عندها وتطلب الطلاق نجد من يسومها أبأس العذاب بإطالة إجراءات التقاضي أولاً ثم بإصدار حكم غير مفهوم أبداً وأظنه غير عادل قوامه تكليفها بإعادة ما أخذت منه مقابل الموافقة على طلبها الخُلع منه ، وعلى هذا فلنقس باقي الأمور.
كما نرى فالعوامل التي تنشأ بسببها الشخصية المحقرة لذاتها عديدة منها ما يتصل بالإنسان نفسه ، ومنها ما له صلة بالمحيطين به من الأقربين والأبعدين ، منها ماله صلة بالأفكار النظرية وما له صلة بالممارسات العملية ، وما لم يكن هناك تعاون من المحيطين بالمرء في صياغة شخصيته وتبصيره بنقاط قوته وضعفه ومنظومة الحقوق والواجبات المسيرة لحياته فسيظل بيننا الكثيرين ممن يشاركون غيرهم في هدم ذواتهم وبالتالي هدر طاقاتهم التي هي في الأساس ذخر للأمة أو عبء عليها .
إن دورنا كأشخاص ومربين ومسئولين بصفة خاصة عن أنفسنا وبمعنى ما عمن ولانا الله تعالى أمرهم يتمثل في أن نسهم بما نستطيع لجعل أنفسنا ومن حولنا واثقين بالله تعالى ثم بأنفسنا وقدراتنا وأن يكون الجميع محبين لأنفسهم وللآخرين مسخرين طاقاتهم لما تنتفع به الأمة . وهذه مهمة ليست باليسيرة وتستحق كل معاناة تعترض تحقيقها ، ولا تتأتى في ظني إلا من خلال التعلم وقد يسر الله سبله المتنوعة ، ومن ثم وضع الأفكار المكتسبة في موضع التطبيق العملي ، مقتدين في ذلك بهدي نبينا صلى الله عليه وسلم وسنن من قبلنا من أنبياء وصحابة كرام وتابعين مقتدين.
وفقنا الله وإياكم لكل خير.